ثقافة ومجتمع

النحاتة اللبنانية “ماري أشقر” تزف ساعات الزمن الجميل عروسا تزخر بالأنوثة إلى موطنها الأصلي

سويسرا والعرب – قاسم البريدي

لئن كانت عاصمة الساعات في العالم تجذب الناس من كل مكان في معارض سنوية مميزة ومتاحف خاصة بأشهر ماركاتها لتحافظ على صمود هذه الصناعة المذهلة وحجمها المميز في اقتصاد بلد يعتمد على الابتكار والإبداع..

فإن اللافت ، ومنذ فترة ليست قصيرة ، وفي إحدى أشهر مدن صناعة الساعات مدينة (Biel- Bienne) شمال غرب سويسرا، هو احتضان معرض فني يكشف وجها جميلا آخرا للساعات ،أذهل عشاقها وصانعيها، هو معرض نحت يحول الساعات القديمة جدا والمنسية عبر التاريخ في لبنان إلى (أنثى) تحاكي الزمن وتجيب عن الكثير من الأسئلة عن سر العلاقة بين الإنسان والوقت في عصر السرعة المذهلة.

فكيف جاءت فكرة استحضار ساعات الزمن الجميل وطقوسها الخاصة وتحويلها عبر عمل إبداعي إلى أنثى تحاكي الواقع.. هذا ما تجيب عليه المصممة والنحاتة اللبنانية ماري أشقر في هذا الحوار.

بداية.. حبذا لو تعرفينا على هويتك الفنية؟

اسمي ماري أشقر تخصّصت أول الأمر في الفنون الجميلة ببيروت وبدأت في مجال التصميم الغرافيكي وعملت لنحو عقد من الزمن في شركة إعلانات وبعد أن كبر أولادي وجدت الوقت الكافي لأمارس هواياتي وأتابع مع زملائي وعائلتي المهتمة بالفن في مجال النحت وسلكت طريقا خاصا بي يعتمد على المهارات الفنية باستخدام تقنيات عديدة وأبرزها الأسلاك النحاسية.

وعملت الكثير من المعارض ببيروت وهذه المرة الأولى التي جئت فيها إلى سويسرا وبدأت بمشروع للنحت خاص بي استمر لخمس سنوات وفي السنتين الأخيرتين كنت أعد لهذا النوع من المنحوتات الخاصة بمجال مهنة الساعات.

كيف ولدت فكرة منحوتات الساعات؟

إحدى المرات كنت أزور إحدى معارض التحف القديمة(الأنتيكة) ببيروت ووالد صاحب المعرض وهو متوفي كان يعمل قديما (ساعاتي) ولفت نظري وجود صناديق كثيرة للساعات الحائطية ومستلزماتها وأعجبت جدا بها فاشتريت كل هذه الصناديق وجربت أن أصنع من هذه الساعات القديمة جدا والنادرة عملا فنيا جميلا ومميزا وهو بالحقيقة امتداد لمشروعي الفني الذي بدأت به منذ عدة سنوات.

لنتعرف أكثر على مشروع ماري أشقر؟

اسم المشروع “les Stylhouettes” وعملت به لمدة خمس سنوات وهو يجسّد أشخاصاً يعملون في مختلف أنواع المهن مثل الأطباء والطباخين والرسامين ولاعبي كرة القدم والمحامين وغيرهم، وتطرقت لمعظم المهن وصنعت المجسّمات من الطين ثم تحوّلت إلى استخدام أعمال النحت إضافة للرسم بالزيت ثم استخدمت الكلس ومواد أخرى كالقماش والحديد والنحاس.

ولماذا اخترت هذا المشروع الخاص بك دون غيره؟

الفكرة ولدت من أنه لا يوجد بيت إلا وفيه إنسان يعمل في مهنة ما وكثيرا ما كان الناس يتصلون بي (صديقاتي ومعارفي) كفنانة ومصممة لأساعدهم باختيار هدية لإحدى المناسبات الشخصية كأن تقول لي إحدى السيدات: زوجي أصبح عمره الستين فماذا سأقدم له في عيد ميلاده ولا أريد الكرافات أو الأقلام، وتطلب مني أن اعمل لها شيئا جديدا وخاصا يتعلق بمهنته كمهندس أو طبيب أو حرفي أو طباخ أو صيدلي وبذلك يتم تخليد مهنته ويضعها بمكان مناسب في مكتبه أو بيته لتكون قطعة جميلة و(مهضومة) ولذلك عملت وعلى مدار خمس سنوات أكثر من 200 عملاً فنياً ضمن هذا السياق وعرضتها بصالات في بيروت ولاقت رواجا كبيرا.

ماري أشقر.. أتعتقدين أن فكرة تخليدك الفني للمهن مبتكرة؟

هذا صحيح.. الفنانون التقليديون تعودوا على محاكاة الطبيعة بكل ما فيها ولم يتطرقوا إلى المهن والحرف وعملت سابقا في مجال تصميم الأزياء والموضة ثم اتجهت إلى المهن. وعندما عثرت بالصدفة على صناديق الساعات القديمة تولدت فكرة المعرض الحالي وتخليد مهنة الساعات نظرا لما تحمله من أفاق وخيال واسع للإنسان المعاصر في ظل ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة.

وهل وجدت صعوبة لإقامة المعرض هنا في سويسرا؟

لا أبدا تحضير المعرض الحالي لم يمر بأية صعوبة لأنني تعرفت على شخصيات سويسرية أعجبت بأعمالي ورحبت بالفكرة وساعدوني بإقامته واستغرق الإعداد له نحو عامين وجسدت الساعات القديمة بـ 54 قطعة فنية تعكس علاقة الإنسان بالزمن من خلال أنوثة المرأة وطموحها بين الواقع والحلم وعشقها للحياة ،وهذا ما لاقى استحسانا من جمهور المعرض ولم يصدقوا ما يرونه.

وهل بحثت عن ماركات شهيرة لتجسديها في المعرض؟

لا لم أنظر بتاتا إلى ذلك لأن الساعات قديمة جدا وانقرضت حتى الماركات معظمها لم تعد موجودة اختفت أو تغير اسمها وشكلها عبر التاريخ ومعظم الساعات القديمة من الداخل متشابهة للغاية وإنما تتغير فقط الماركات.

أما الماركات الشهيرة الحالية فقمت خلال تواجدي هنا (أثناء إقامة المعرض) بزيارة أغلب معاملها وأهديتهم كتابا يتضمن الأعمال الفنية الخاصة بالمعرض كاملة ومن بينها أيضا متاحف للساعات كمتحف مدينة الشودفون.

ماري أشقر بصراحة.. هل فكرتي بالمردود المادي؟

أبدا الفنان لا يبحث عن المردود المادي إنما عن قيمة وأهمية العمل الفني والإضافة التي يقدمها للفن، والمعرض هو فرص لعرض هذه الأعمال لأنني لا أريد أن أحتفظ بها لنفسي إنما للجمهور الذي سيهتم بها وتعني له الكثير وعندما يقدم أحدهم لشراء إحدى لوحاتي هذا يدل على حبه لها كشيء ثمين ورمز للجمال والإبداع.

ولماذا غاب الرجل عن أعمالك لتقتصر على المرأة فقط؟

لأن الساعات القديمة بشكلها ودورها واعتمادها على النوابض (الراصورات) أوحت لي بالتنورة وكما تلاحظ أغلب اللوحات لنساء يستخدمن (الراصورات) بأشكالها كتنورة جميلة متعددة الأشكال والوظائف كالرقص والغناء، والرجال لا يلبسون التنورة..

كيف كان الإقبال على المعرض…؟

الإقبال جيد والجميع أعجبوا به كفكرة وموضوع وكتجسيد فني جميل يلامس حياتهم وكيف ذهبت هذه الساعات القديمة جدا من بلادهم عبر العصور وعادت إليها مجددا بعد ان أعطيتها ملامح الأنوثة والحياة المتجددة والمعاصرة وهي لساعات قديمة جدا لم تعد تستعمل خاصة الساعات الحائطية الكبيرة التي كانت تعمل بوسائل تقليدية بدائية.

أخيرا.. هل شعرت أن المعرض حقق طموحك؟

لا يهمني إقامة المعرض بحد ذاته، إنما استمرار العمل الفني لأن ذلك يمتعني جدا ويسليني، ولدي الوقت الكافي بعدما كبر أولادي، والفن يشغل أوقات حياتي بشكل لطيف وذكي و(مهضوم) وحلو.. ومن وجهة نظري أعتقد أن هذا المعرض في مجال التحف القديمة (الأنتيكة) سيستمر مع مرور الوقت ويصبح أجمل كلما مر الزمن ولهذا لا يتوقف بل تصبح له قيمة أكبر..

جولة في معرض Au Fil Du Temps

في المدينة القديمة لـ (Biel-Bienne) والتي تحتضن جميع الفنون من مسارح ومكتبات ومعاهد وورش للفن الجميل من رسم وموسيقى وخزف ومعارض للتحف الفنية القديمة والمعاصرة، عرضت النحاتة اللبنانية ماري أشقر أعمالها الجميلة البالغة 54 عملا بعنوان مرور الوقت (Au Fil Du Temps)..

وفي جولة ضمن المعرض نجد كيف تحوّل ماري أشقر بيديها الناعمتين وأناملها الحريريّة الساعات القديمة جدا، باستخدام أسلاك الحديد والنحاس، إلى شخصيّات ساكنة منسوجة من الإبداع على شكل أنثى رقيقة جدا مع عقارب تتحرّك تُعيدنا من الماضي إلى الحاضر مع كل نبض، تتطرق لمواضيع مثيرة وكثيرة على وشك أن تنطق لتروي لنا قصّةً تحاكينا بتفاصيلها..

تيك.. تاك

ونجد في المعرض لكل تحفة فنية اسم خاص بها بالفرنسية ومن بينها لوحات عن الرقص والموسيقى باستخدام راصور الساعة وفي إحداها استخدم رقاص الساعة الحائطية الكبيرة الذي يصدر صوته الشهير (تيك تاك) وعملته كألة غيتار الموسيقية الشهيرة وكأنها تعزف الموسيقا. 

وفي بعض المنحوتات تجسدت الساعة على شكل كتاب وامرأة وهي تقرأ به كأنها تقرأ على طريقتها الوقت وفي منحوتة أخرى جسدت امرأة راكضة بسرعة لتحاكي الزمن الراهن الذي نحاول اللحاق به ولا نستطيع أن نوقفه ولو للحظة واحدة وكأن اللوحة تقول لنا: الوقت يركض وأنت لا تستطيع فعل أي شيء وإيقافه.. 

ونجد في الجناح الأيسر من المعرض منحوتة لامرأة تجمع بقايا الساعة التي سقطت على الأرض وتحاول إعادتها كما كانت وامرأة ثانية مع الساعة وكأنها مع آلة موسيقية ولوحة لامرأة ثالثة وخلفها مفتاح ضخم كان يتم به تعبئة حركة الساعة الميكانيكية حيث لم تكن بعد استخدام البطاريات أو غيرها ويتم برمها ليلتف الراصور لنهار كامل ليرجع إحياء الصوت في اليوم الجديد ليقول صوته الشهير (تك تك)..

الزمن.. خلفنا وفوقنا

في الجهة اليمنى للصالة نرى منحوتة لسيدة تحمل كل أجزاء الساعة المبعثرة وكأن الإنسان يحمل الوقت الكثير المبعثر ليتركه خلفه ويستمر بالسير وذلك نظرا لكثرة هموم الحياة ومصاعبها..

وفي منحوتة ثانية سيدة تشرب الشاي وتحتها كل أجزاء الساعة على طاولة وهي تتأمل الوقت بينما تكشف لوحة ثالثة أسرار الساعة من الداخل بكل مكوناتها في حين نجد فتاة بلوحة أخرى وهي بوضع مقلوب رأسه في الأسفل وجسدها بالأعلى لتعبر عن أن الوقت أصبح يمشي بالمقلوب(يتشقلب) والجميع يركض. 

كذلك نجد لوحة لامرأة تحمل الساعة وهي منحنية لأن الزمن ثقيل عليها وبالمقابل لوحة لفتاة وهي تحمل إطار وتطل منه وكأنها هاربة من الزمن نحو أفق أكثر اتساعا يتلاءم مع حاجاتنا وخيالنا الواسع. 

وأخيرا.. نعثر على لوحة تعبر عن أن الوقت لا يمكن أن نوقفه إلا بالصورة و(غير هيك لا) لأن الوقت لا ينتظر أحد ويستمر إلى ما لانهاية شاء من شاء وأبى من أبى.. وإلى جوار هذه اللوحة تجسد تحفة فنية رزنامة قديمة تتوافق وتتناغم مع الساعة. لتقول لنا أيضا: أن الحياة مجرد ذكرى لا تمر لحظاتها إلا وتنتهي بسرعة البرق.. 

———————————————–

وجه آخر للساعة السويسرية

لم يتوقع الجمهور السويسري أن أحدا سيغير وجه الساعة السويسرية التي اعتادوا على أهميتها ودقتها وجمالها وإبداعها جيلا بعد جيل وصمودها حتى الآن بوجه كل التقنيات الخاص بالوقت، وبهذا تغير وجه الساعة في بلد الساعات لتصبح أنوثية فيها جمال المرأة بكل ما فيها من ابداع وفن وحب للحياة. 

الساعات تغيير حياة مدينة 

تعتبر مدينة بيال، عند سفوح منطقة جورا المحاذية لفرنسا، حاضرة الساعات المشبعة بالتقاليد، حيث الحرفية السويسرية مازالت معززة ومدعومة هنا.. وليس سرا القول إن صناعة الساعات وازدهارها هو سر تحول هذه المدينة من مدينة تتكلم اللغة الألمانية إلى مدينة تتكلم الفرنسية أيضا على قدم المساواة ولهذا لها اسمها ثنائي (Biel- Bienne)..  وتتخذ كل من ساعات سواتش، رولكس، أوميغا، تيسو، موفادو وميكرون من بيال مقراً لها، وصاحب شركة سواتش هو نيكولا حايك لبناني وسميت حديقة بحيرة المدينة وشارع باسمه نظرا لبصمته الكبيرة في ازدهار صناعة الساعات.

————————–

للمزيد من الصور والمعلومات على شبكة الأنترنت: www.marieachkar.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *