“جيانادا” ..كيف أصبحت عاصمة عالمية للفن الحديث؟
(سويسرا والعرب) – قاسم البريدي
لم يخطر ببالي حينما دعاني صديقي دانييل تروليه عضو البرلمان السويسري الفرانكفوني إلي حضور معرض للفنان العالمي سيزار قبل أكثر من عاميين، أنني سأكتشف بصحبته كيف استطاعت مؤسّسة (بيير جيانادا) أن تحول بلدة مارتيني الواقعة جنوب غرب سويسرا إلى عاصمة عالميّة مصغرة للفنّ الحديث.. فكيف نجح أحد المواطنين في استحضار تاريخ البلدة ويحول حلمه الأقرب للخيال إلى واقع؟ ..هذا مانتحدث عنه في الأسطر التالية..
البلدة والتي كان اسمها أكتودوروس جعلها الرّومان عاصمة لإحدى مقاطعات امبراطوريتهم بحكم موقعها الاستراتيجي كبوابة تخترق جبال الألب لتربط إيطاليا وسويسرا، وعاشت بعد ذلك قروناً مضطربة كونها تطل على مفترق طرق لا يعبر منه البشر والبضائع فقط، بل الغزاة والجيوش أيضاً وآخرها جيش نابليون.
بعد ذلك اندثرت أجزاء من آثارها وصارت تسمّى مارتيني، وتتبع إلى كانتون فالي، وتمر منها قوافل السياح المألوفة، بحثا عن تسلية بين الجبال القريبة.
الرجل الذي كان وراء إيقاظ هذه البلدة هو المهندس ليوناردو جيانادا الذي عثر عام 1976على بقايا أقدم هيكل لمعبد رومانيّ في سويسرا مكرّس لعطارد، وذلك أثناء القيام بحفريات من أجل بناء منزل وبعد فترة قليلة من هذا الاكتشاف، جاء خبر الموت المفجع لأخيه بيير.
وهذه الواقعة المؤثرة ولّدت لدى ليوناردو جيانادا فكرة أقرب للخيال وهي انشاء مؤسّسة للفن على الموقع الرّومانيّ وفاءً لذكرى أخيه وتحمل اسمه.. وهكذا ظهر للوجود مبنى غريب، يبدو في شكل ضريح، يستضيف سنوياً على محيطه عشرات العروض الرائعة لأشهر الفنانين في العالم إضافة لمتحف رومانيّ ومتحف للسيّارات ومتحف ثالث للمنحوتات في حديقة جميلة ومجموعة صالات ثقافية وقاعة ضخمة للعروض الموسيقيّة.
ويعترف ليوناردو بأنه “للقيام بكلّ هذا، لابدّ أن يكون المرء مجنونا بعض الشّيء”، حيث تطلب ذلك جهداً كبيراً وزيارات عشرات المتاحف والمراكز الثقافية لتحقيق أفضل المواصفات والشروط الفنية والهندسية للحفاظ على الآثار الرومانية، ولهذا نجح خلال عامين وبامكانيات محددة من إطلاق هذا المشروع لإحياء بلدته التاريخية وتنميتها ثقافياً وسياحياً.
واليوم، أصبحت مارتيني تعيش على إيقاع المؤسّسة، فعند كلّ عرض جديد، تغطى المدينة كلّها، بأسواقها ومحالها التجارية وشوارعها وساحاتها، بلوحات إرشادية توجّـه أي زائر، ولو كان ضريرا، نحو متحف جيانادا.
وهكذا حوّلت مؤسّسة بيير جيانادا البلدة الهادئة إلى مركز عالمي للفنّ، يستقطب عشاق الفن والنقاد والفنّانين، القادمين من كافة أنحاء أوروبا ومن وراء المحيط، حيث زارها منذ تأسيسها عام 1978 حتى اليوم ملايين الأشخاص للتمتع بأعمال أشهر أعلام الفن في القرنين التاسع عشر والعشرين ، مثل تورنر وماني وفان غوغ وغوغان وماتيس وبيكاسّو ورودان وبراك وكلي ومودلياني وشاغال وميرو وجياكوميتّي وسيزار الذين عُـرضت أعمالهم بوتيرة مدروسة بين مرتين وثلاثة مرات في السنة الواحدة.
وتحرص مؤسسة جيانادا على جذب عشاق الفن من عواصم العالم كباريس وميلانو وبرلين عبر استضافة نوعيّة من الأعمال المميزة والنادرة، وباتت تصنف معارضها في قائمة العروض الأكثر زوّارا في العالم، بل غالبا ما تكون ضمن الـعشر الأوائل، وتحوّلت إلى ظواهر عالمية متكررة كعرض فان غوغ عام 2000، الذي جمع نصف مليون زائر لمشاهدة 90 لوحة.
وفي قلب الطبيعة الساحرة المحيطة بمباني المؤسسة يرى الزوار في حديقة المنحوتات، أعمالا مدهشة لرودان وآرب وبرانكوزي وميرو ودو بوفي وكالدر وسيغال، إضافة لزيارة المعالم الأثرية لمعبد جالو الروماني ،كمتحف خاص يعرض في ساحاته القطع الأثرية الرومانية المكتشفة في المنطقة.
وخصص بناء آخر في المؤسسة كمتحف للسیارات القديمة جداً، ويضم نحو خمسین سیارة تعطينا فكرة تاريخية لتطور المركبات، واغلبها صنعت في الفترة مابین 1897 و 1939 مع علامات تجارية مرموقة مثل رولز رويس ، بوجاتي ، مرسيدس بنز ، ألفا روميو ، إيزوتا فراشيني أو هيسبانو-سويزا.